هي فرصةٌ نادرة أن يعيش الإنسان في هذه الدنيا، لأنَّها مرة واحدة غير قابلة للتكرار، فمن استغلَّها واستفاد منها فاز وربح. ولعلَّ المشكلة الأساس، أنَّنا في كثير من الحالات، لا نعرف من نحن ! ولا ما يُصلح شأننا في الدنيا! ولا نعرف حقيقة تكويننا، وطبيعة أشخاصنا، والقواعد التي خلقنا الله تعالى عليها! لذا نعيش في حيرة ، ونخطئ في خياراتنا، ونكتشف الثغرات والمساوئ بعد تجارب كثيرة، وخسارةِ فترةٍ طويلة من حياتنا.
الانطلاقة السليمة والمطمئنة تقتضي البحث عن طبيعة تكوين الإنسان، وعوامل وصوله إلى مرحلة الثبات والاستقرار، وكيفية امتلاكه لمقومات السعادة الحقيقية، وماهية القدرات الكامنة في داخله، وإمكانية تصرفه بها، وكيفية تسخيره لهذه القدرات في إطار انعكاسها الإيجابي على حياته. وهل من عوائق تحدُّ من قدرته فتكشف عجزه عن بعض الأمور، أو تلزمه وتقيِّده بما يستدعي منه التكيُّف معها؟
ينمو جسد الإنسان وشخصيته ضمن مسارٍ طبيعي أوجده الله تعالى، وما يفرح به الأهل، ويعيشون معه الأطوار المختلفة لنمو طفلهم، هو النمو الطبيعي لكل الأولاد. فالأهل ينظرون إلى مشي الطفل عند بلوغه عاماً أو عامين، ونطقه، واستخدام يديه باتزان... كإنجازاتٍ مهمة، وقد أودع الله تعالى في نفوس الأهل هذا الاستئناس والتفاعل عند ملاحظة النمو التدريجي للطفل، واكتسابه خصائص القدرات المختلفة بحسب عمره، لكنَّه القانون الإلهي الذي يسري على البشرية، في الخلق والنمو، ثم الفناء.
فإذا وجدتَ نفسك أيها الشاب، أيتها الشابة، تتميز بعنفوان الشباب وحيويته، وتمتلك القدرات المختلفة، فتذكَّر أنها من خلق الله تعالى، وأنك لولا إرادته لم تكن، وأن ما تتميز به من مواصفات هي من عطاءاته ونِعَمه ورحمته بك، وهي مميزات تتكرر فيمن خلق الله تعالى من البشر، فلا تنسب هذه القدرات إلى نفسك، ولا تغتَّر بها، ولا تعتقد فرادتك عن كل الناس، فأنت مخلوقٌ وهم مخلوقون،" هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ"(1)، وقال تعالى أيضاً:" وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ "(2).
أتت التكاليف الإلهية في الحلال والحرام منسجمة مع المقومات والإمكانات التي أودعها الله تعالى في الإنسان، وهي متناغمة مع قدرته، قال تعالى:" لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَ وُسْعَهَا "(3)، فإذا أردنا التعامل السليم مع الشاب في تربيته وتوجيهه ومساءلته، علينا أن نتعرَّف على قدراته وإمكاناته التي يتحمل مسؤوليتها، لنحاسبه عليها، ونتجنَّب مساءلته فيما يكون خارجاً عن إرادته وقدرته.
من الأخطاء الشائعة بسبب الجهل بالإمكانات المتوفرة لدى الإنسان، ما كان يفعله بعض الآباء والأمهات مع أبنائهم عندما لا يأكلون أو يشربون أو يكتبون باليد اليمنى، رغبةً منهم في تطبيق الحديث الشريف في استحباب استخدام اليمين وكراهة استخدام اليد اليسرى، لقوله (ص):"إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإنَّ الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله"(4). وقد فاتهم أنَّ استحباب استخدام اليمين وكراهة استخدام الشمال مرتبط بالقدرة، كما هي كل التكاليف فإنَّها مرتبطة بالقدرة، فإذا كان الولد عاجزاً عن ذلك فهو معذور، وقد ثبت علمياً أنَّ عدداً من الأولاد يتلقون أوامرهم من الجهة اليمنى من الدماغ، وهو ما يؤدي عادة إلى تحريك اليد اليسرى بفعالية، بخلاف الذين يتلقون أوامرهم من الجهة اليسرى من الدماغ، فإنهم يحركون اليد اليمنى بفعالية، ما يعني بأن العجز عند البعض من استخدام اليد اليمنى أمرٌ تكويني، لا يتحمل الفرد مسؤوليته لأنَّه خارج عن قدرته، وبالتالي لا لا يُحاسب عليه. فلو أدرك الأهل من بداية الأمر هذا الاحتمال، وتابعوا إمكانية انطباقه على ولدهم، لما أرهقوا أنفسهم، وعذَّبوا ولدهم، بأشكالٍ مختلفة من الضغوطات، ليمسك لقمته أو ملعقته أو قلمه باليد اليمنى، لأنَّه معذور، ولا تكليفَ بغير المقدور.
ومن الأخطاء الشائعة نسبةُ أفعال الولد وصفاته السلبية الشخصية إلى أحد أقربائه، إمَّا لشبهه في خلقته، وإمَّا لقرابته به كالخال والعم. علماً بأن الصفات الشخصية في الشكل والمقومات تكون بالوراثة، لكنَّ السلوك وطريقة التصرف تنتج عن التربية، فإذا صادف التشابه بين الصفات الشخصية والسلوك بين الولد وعمه، فلأنه خضع للأجواء التربوية نفسها. فالشاب مسؤول عن تصرفاته، سواءً أكانت شبيهة بتصرفات عمه أو كانت مختلفة عنها، وسواءً أكان يشبه عمه في خلقته أو كان يختلف عنه، فلا علاقة للتشابه التكويني الخارج عن إرادة الإنسان في الشكل واللون والقدرة والذكورة أو الأنوثة... بالسلوك الذي ينطلق فيه الإنسان بملء إرادته، وعن تصميمٍ يتحمِّل مسؤوليته.