إذاً ما هو حدود التمايز في الحياة الزوجية؟ وبعبارة أخرى كيف نفهم حدود القوامية للرجل داخل الأسرة؟
قال تعالى:" الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ..."(1). القيِّم هو الذي يقوم بأمر غيره فيتولى الأمر والقيادة، والقوَّام مبالغٌ فيه فهو تشديد على المسؤولية. أما العلَّة لقوامية الرجال على النساء في إطار الأسرة فتتمثل في أمرين:
الأول:ما فضَّل الله به بعضهم على بعض، أي ما فضَّل الله به الرجال على النساء، ومعنى فضَّل هو ما زاد بحسب الخِلقة ومواصفاتها بما يمكِّن من القيام بدور القيمومة. وقد بيَّنا الفروقات الواقعية التي تؤهل الرجل للقيام بمسؤولية رعاية وإدارة وحماية الأسرة، أما ما تميَّزت به المرأة بحسب الخلقة فيمكِّنها من القيام بدور آخر في الحياة الزوجية. هذا التفضيل التكويني لا يرتبط بالتفضيل الإلهي في يوم الحساب، فالتفضيل التكويني في جانب محدد ينعكس تكليفاً ومسؤولية ودوراً، أما التفضيل الإلهي فهو انعكاس لحسن أداء التكليف والقيام بالواجب بصرف النظر عن الجنس، ما يبيِّن بأن التفضيل التكويني ليس تشريفاً ومكانة، بينما التفضيل الإلهي هو التشريف والمكافأة، حيث يتنافس الجميع من داخل دائرة الزوجية ومن خارجها ، ليكون الأداء الزوجي واحداً من الامتحانات والاختبارات، التي ترفع الأفضل منهما بحسب موقعه ودوره ليكون الأتقى، وفي التقوى درجات تتبع مستوى الالتزام بالعمل الصالح" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ" (2).
الثاني: ما أنفقوا من أموالهم، فالرجل مسؤول عن الإنفاق مهما كانت قدرة المرأة المالية، ومسؤول عن السعي ليتمكَّن من القيام بهذه المسؤولية، فلا بدَّ أن يحصل على سلطة توازي الإنفاق، وهي الإدارة التي تُمكِّنه من الإشراف على ما ينفق. فلو افترضنا أن المرأة تصدَّت للإنفاق، فإنها تكون بذلك متطوعة لأنه خارج عن مسؤوليتها، ولا بدلية لها في الإدارة. وفي الوقت نفسه لا يمكن للرجل أن يتهرَّب من مسؤوليته في الإنفاق، فلو امتنع عن ذلك يفقد حقه في الإدارة، ويمكن للمرأة أن تطلب طلاقها من الحاكم الشرعي، الذي يُلزم الزوج بالإنفاق أو الطلاق أو يطلقها نيابة عنه.
إن القوَّامية هنا قوامية إدارة الأسرة، ضمن صلاحيات محدَّدة غير مطلقة، وفي دائرة نظام دقيق ومتناسب للحقوق والواجبات، فله إدارة شؤون الأسرة وحسم توجهاتها والقرار فيها. فيما يقع في دائرة الأمور المشتركة بين الزوج والزوجة، فالإنفاق يشمل الطعام والطبابة والخدمات المنزلية العامة والسكن وأثاث المنزل واللباس وتأمين مدارس الأولاد وحاجياتهم... الخ، وتكون ضابطته المستوى اللائق بحالها والمنسجم مع إمكاناته، فلو اختلفا على تفاصيل جزئية لا تمس الالتزام العام، وإنما تدخل في دائرة الخيارات المتعددة والاستنساب ، فالقوامية تقتضي أن يكون القرار النهائي له. والأمر نفسه يتكرر مع تربية الأولاد وطريقة توجيههم ومتابعة شؤونهم والعمل لصلاحهم، فلا إشكال مع الاتفاق، ويرجح رأيه مع الاختلاف. أمَّا القواعد العامة للإدارة فلها علاقة بالتوجيهات التي ترتبط بالأسرة في محيطها وفي نمط حياتها وعلاقاتها الإجمالية، وهو الذي يرسمها. إنَّ التفاصيل التي ذكرناها توضح معنى قوامية إدارة الأسرة حيث يكون القرار النهائي للرجل، وهو محكوم لإطار الحلال والحرام، والإنصاف في القيام بدوره ، ورعاية حقوق الزوجة والأولاد بعدم تجاوزها، والمعاشرة بمعروف وإحسان.
وعندما تُبنى الأسرة على القوامية وتوزيع الأدوار، فإنها تصل إلى المستوى الأرقى والأفضل، إلى المودة والرحمة من دون أن نغفل مقدمات الوصول إليها، بحيث تتم مناقشة الأمور، ومحاولة الوصول إلى قناعة مشتركة بين الزوج والزوجة في كل قضايا البيت والأولاد وخاصة في طريقة تربيتهم ومتابعتهم، فلا تطغى الأوامر الصادرة من الأعلى من دون تمهيد وتشاور ورعاية لمشاعر الطرف الآخر، وذلك لتأسيس البناء المتناغم والمتماسك، وهذا لا يُنقص شيئاً من حق الحسم للرجل عند الاختلاف. هذا السلوك مطلوب في كل إدارة لمجموعة أو مؤسسة، فكيف إذا كانت الأسرة وما لها من خصوصية، وهو تعبير عن الاستفادة من أخلاقية التعامل الإسلامي لإضفاء الطابع الروحي على العلاقة الزوجية، وعدم اقتصارها على الحدود الدقيقة لحق كل طرف. وقد أكَّدنا على أهمية ملاحظة رغبة الآخر وذلك بالتنازل لمصلحته، طالما أن الأمر لا يمس المبادئ والأسس ، ويدخل في دائرة الاستنساب،لأن التنازلات المتبادلة لها الأثر الكبير في إعطاء الأسرة مضموناً مستقراً ومرتاحاً.
إذاً للرجل إدارة شؤون الأسرة وحسم توجهاتها والقرار فيها، وحق الاستمتاع، وحق الطاعة بما هو واجب على الزوجة تجاهه، وما عدا ذلك ليس له، وعليه واجب أن ينفق ويتحمل مسؤولية متطلبات الأسرة كاملة بما فيها خدمة المنزل والأولاد، وأن يحسن الإدارة فلا يأمر بمعصية، وأن يكون منصفاً فلا يستخدم سلطته أو قوته الجسدية للتسلُّط والتحكُم، وأن لا يتدخل فيما تملك زوجته، وما تقوم به من واجبات شرعية، وما يعتبر من خصوصياتها. هذه المواصفات تبني أسرة متوازنة، لكل من الرجل والمرأة حقوقه فيها، أما إذا أُلغيت هذه الضوابط فإنَّ نظام الأسرة يختل، ولا يمكن الاعتماد على التوافق في كل أمر كشرط للقرار، أو على التنافس والمغالبة، أو التوزيع الاستنسابي للأدوار بحسب كل أسرة، فهذه نماذج تختلف عن النموذج الإسلامي، وهي التي ساهمت في تفكيك الأسرة في الغرب.
يمكننا القول بأنَّ التشريع الإسلامي يتجه إلى العدالة في التوزيع للحقوق والواجبات لكل من الرجل والمرأة بما ينسجم مع مقوِّمات الخلق، وهي مساواة حقيقية وفعلية لأنها تؤدي إلى التكافؤ بين القدرة والتكليف، لكنَّها مختلفة عن المساواة المدَّعاة في الغرب ومخالفة لها. فالمساواة الغربية شعار غير واقعي إذ لا يمكن تحميل المرأة ما يحمله الرجل، فلا يمكن أن تعمل ويعمل، تنفق وينفق، تدير ويدير، تأمر الأولاد ويأمرهم، تقرر في المنزل ويقرر، فالنتيجة أسرة مفكَّكة أو أفكار غير مطبقة. أما المساواة الإسلامية فهي عادلة ومنسجمة مع الواقع، والنتيجة أسرة مطمئنة وتعاليم مطبقة. بل نلاحظ فيما أوجبه الإسلام على المرأة، بأنَّه يوفر لها سبل الراحة الكاملة تعزيزاً وتكريماً لمكانتها، ومراعاة لرقَّتها ودورها ، لتشكل حقوقها مصدر قوة لها وحصانة تحميها.
ثم يساهم عامل الإيمان، والأوامر الإسلامية العامة المرتبطة به، في التوجيه الأخلاقي والانضباط في الحقوق والواجبات والتفاعل مع رقابة الله تعالى، ليضفي تنافساً نحو الخير وحسن الأداء والتنازلات والتقديمات المتبادلة، فتتظلَّل الحياة الزوجية بتعاليم الإسلام لتنتج المودَّة والرَّحمة. أمَّا ما نراه من إساءة للتطبيق فهو مرتبط بسوء تحمُّل المسؤولية وتجاوز الصلاحيات، وهذا ينطبق على الرجل في موقعه وعلى المرأة في موقعها. فإذا برز استخدام الرجل لقوته الجسدية وللإعتبارات الاجتماعية ليظلم امرأته، فهذا خروج عن دائرة التكليف وارتكاب لحرام شرعي، ولا علاقة للصلاحيات المعطاة له إسلامياً ولو ادعى تطبيقها فقد تجاوزها وانحرف عنها، ومن كان ظالماً في أسرته فظلمه لا يحتاج إلى أي غطاء، وهذا ما ينطبق على أي رجل لا يلتزم الحدود. لذا نرى أن العنف وقهر المرأة موجود في كل العالم بما فيه الغرب، لأنه يعتمد على بنية الجسد ولا يعتمد على التعاليم، ونحن نعتبر أن المسؤولية التي يتربى عليها المسلم، يجعله أمام حاكم يرى ويسمع ويثيب ويعاقب، ما يجمله اندفاعه نحو التسلط والظلم والاعتداء واستغلال بنيته الجسدية.
وإذا استخدمت المرأة جاذبيتها وجمالها لتجعلها محل المنافسة في المجتمع، وانصرفت عن زوجها وأسرتها، واعتبرت نفسها خارج دائرة المساءلة، أو إذا تعاملت مع الرجل بطريقة نديَّة تنافسية، فإن الحياة الزوجية ستتجه حكماً نحو الفوضى والتفكُّك، ما يعني ضرورة توجيه طاقة المرأة في الاتجاه الصحيح الذي يراعي الرقابة الإلهية على الأفعال والسلوك العام.
إنَّ النظرة الإسلامية للمرأة داخل الأسرة غير منفصلة عن توجيه إمكاناتها في الإطار السليم، فجسد المرأة لا يمكن أن يكون مشاعاً ، وجمالها وجاذبيتها لا يصح أن تكون مباحة، فهذه المواصفات يستفاد منها في إطار الزوجية فقط، أما مواصفاتها الأخرى فهي مسخَّرة بالأولوية لإضفاء حنانها ورقتها على الحياة الزوجية لإسعادها، ولتربية الأولاد(M) من الناحية السلوكية كمسؤولية مشتركة مع الرجل، وهذا لا يتعارض أبداً مع موقعها ودورها الاجتماعي كجزء من الفعاليات التي تتكامل لبناء عناصر القوة في الأمة، وهي أيضاً تشترك في هذا الأمر مع الرجل، وإن اختلف ما يقدمه كل منهما بحسب إمكاناته، كما يختلف ما يقدِّمه كل فرد عن الآخر في المجتمع بحسب إمكاناته.